من بلاغة القرآن التشابه والاختلاف بين الآيات
في القرآن الكريم آيات وتعبيرات تتشابه مع تعبيرات أخرى ولا تختلف عنها إلا في مواطن ضئيلة كأن يكون الاختلاف في حرف أو في كلمة، أو في نـحو ذلك.
وإذا تأملت هذا التشابه والاختلاف وجدته أمراً مقصوداً في كل جزئية من جزئياته، قائماً على أعلى درجات الفن والبلاغة والإعجاز، وكلما تأملت في ذلك ازددت عجباً وانكشف لك سر مستور أو كنز مخبوء من كنوز هذا التعبير العظيم.
# فمن ذلك استعمال لفظ (مَكَّةَ) و (بَكَّةَ) لأم القرى.
جاء في قوله تعالى )إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ*فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ( آل عمران:96-97.فاستعمل لفظ (بَكَّةَ) بالباء في حين قال: )وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا( الفتح:24.فاستعمل لفظ (مَكَّةَ) بالميم وهو الاسم المشهور لأم القرى.وسبب إيرادها بالباء في آل عمران أن الآية في سياق الحج )وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ( فجاء بالاسم (بَكَّةَ) من لفظ (البَكّ)
الدال على الزحام لأنه في الحج يبكّ الناسُ بعضهم بعضاً أي يزحم بعضهم بعضاً وسميت (بَكَّةَ) لأنهم يزدحمون فيها.وليس السياق كذلك في آية الفتح فجاء بالاسم المشهور لها أعني (مَكَّةَ) بالميم فوضع كل لفظ في السياق الذي يقتضيه .. والله أعلم.
#ومن ذلك قوله تعالى: )إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا(النساء:149
وقوله: )إِن تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا( الأحزاب:54
فقد قال في آية النساء )إِن تُبْدُواْ خَيْرًا(وفي الأحزاب )إِن تُبْدُوا شَيْئًا(، وذلك أن آية النساء وردت بعد قوله تعالى: )لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ..(النساء:148 ، فذكر أنّ الله لا يحب الجهر بالسوء، ولذا قال بعدها )إِن تُبْدُواْ خَيْرًا(أي إن تظهروا خيراً وهو عكس الجهر بالسوء، فالله سبحانه لا يحب السوء ولا الجهر به بخلاف الجهر بالخير.وأما في آية الأحزاب فالسياق يتعلق بعلم الله بالأشياء الخافية والظاهرة فقد قال قبلها )..وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ..(الأحزاب:51 . وقال: )..وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا..( الأحزاب:52 ، وختم الآية بقوله )فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا( الأحزاب:54 ، ومعنى الآية أنه يستوي عنده السر والجهر فناسب أن يقول: )إِن تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ( لا أن يقول: (إِن تُبْدُواْ خَيْرًا) هذه علاوة على مناسبة كلمة (شَيْءٍ) الواقعة قبلها وبعدها فوضع كل لفظة في مكانها المناسب لها.
الآية بقوله )فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا( الأحزاب:54 ، ومعنى الآية أنه يستوي عنده السر والجهر فناسب أن يقول: )إِن تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ( لا أن يقول: (إِن تُبْدُواْ خَيْرًا) هذه علاوة على مناسبة كلمة (شَيْءٍ) الواقعة قبلها وبعدها فوضع كل لفظة في مكانها المناسب لها.
#ومن ذلك قوله تعالى: )وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ( النحل:66، بينما قال في سورة أخرى: )وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ( المؤمنون:21
ففي سورة النحل ذكّر الضمير (بُطُونِه)، بينما أنّث الضمير في سورة المؤمنون (بُطُونِهَا)، والسبب ان التأنيث في اللغة العربية يدل على الكثرة، وهي هنا تشمل الأنعام ذكورها وإناثها وقد ذكر معها لفظ (مَنَافِعُ) أي ليس اللبن فقط، أمّا في تذكير الضمير فقد دلّت على القلّة (بُطُونِه)، لأن اللبن الذي يسقينا الله عز وجل من بطونه لا يشمل الجميع بل إنه يخرج من قسم من هذه الأنعام وهي الإناث.
ومثله قوله تعالى: )وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ( يوسف:30، فذكّر الفعل (قَالَ) لأنه ليس جميع النسوة قلن ذلك، بينما قال في آية أخرى: )قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا(الحجرات:14، فأنث (قَالَت) لأن الأعراب كثير.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: )هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا( الفتح:4 ، وقال تعالى في السورة نفسها: )وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا *وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا( الفتح:6-7، ففي الأولى قال (عَلِيمًا حَكِيمًا) لأنه كان يتحدث عن السكينة والإيمان الذي في القلوب، فهذه تتعلق بالعلم بما في القلوب من إيمان وسكينة، أما الآيات الأخرى فكان الحديث عن المنافقين والمنافقات وغضب الله تعالى عليهم، فذكر العزة فقال (عَزِيزًا حَكِيمًا).
فانظر أي تعبير هذا؟
أعجبني فنقلته